السبت، 9 أكتوبر 2010

خطبة الجمعة : المنهج والمصادر


تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس وبتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نظم المجلس العلمي الأعلى بتاريخ 19 ربيع الثاني 1426 موافق 25مايو 2005 بمدينة الدار البيضاء يوما دراسيا حول خطبة الجمعة، وقد شارك فضيلة الأستاذ العلامة اليزيد الراضي في هذه الندوة العلمية ببحث بعنوان: خطبة الجمعة: المنهج والمصدر، وهذا نصه:( نقلا عن موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)

تعتبر الخطبة الدينية إحدى الوسائل الهامة التي اعتمد عليها الإسلام، لتنوير أفكار الناس، وتزكية نفوسهم وتفقيههم في دينهم، وإحكام صلتهم بخالقهم، وتبصيرهم بواجباتهم الدينية والدنيوية. ولذلك تعددت الخطب في الإسلام فكان من بينها خطبة الجمعة، وخطبتا العيدين، وخطبة الاستسقاء، وخطبة الكسوف والخسوف عند الإمام الشافعي. وأهم هذه الخطب الدينية خطبة الجمعة.
1 - أهمية خطبة الجمعة
2 - منهج خطبة الجمعة:
أ - تحديد الهدف من الخطبة
ب- اختيار الموضوع المناسب
ج- التنظيم المحكم
د- الجدية اللازمة
هـ- الوسطية والاعتدال
و- صحة المعلومات المقدمة
ز- مراعاة حال المخاطبين
ن- احترام الثوابت الدينية
3 -  مصادر خطبة الجمعة
-----------
1- أهمية خطبة الجمعة
وتأتي أهميتها من أمور عدة منها :
1- كونها منتظمة، تلقى على الناس مرة كل أسبوع، وهذا الانتظام – والتكرار الأسبوعي – يجعل المسلمين أكثر ارتباطا بها من غيرها.
2- كونها تلقى في رحاب المسجد، الذي له حرمته وقدسيته في قلوب المسلمين فوجود المستمعين للخطبة فيه، مدعاة لإقبالهم على الخطيب، والتأثر البالغ بمواعظه وتوجيهاته.
3- كونها مرتبطة بصلاة الجمعة ارتباطا وثيقا، لدرجة أن من الفقهاء من اعتبرها قائمة مقام الركعتين الأوليتين من الظهر.
4- كونها تلقى في يوم الجمعة الذي ه وأفضل أيام الأسبوع، وعيد من أعياد المسلمين ولا شك أن هذا اليوم العظيم، تهب فيه على المسلمين نفحات ربانية خاصة، تجعلهم أكثر إقبالا على الله أ وأكثر استعدادا للتأثر والاستجابة.
5- كون السعي لحضورها واجبا، والإنصات إليها ضروريا، قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع )(1) وقال صلى الله عليه وسلم :" إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت"(2).
ولذلك يعتبر دورها في التوعية الدينية دورا كبيرا، إذا أحسن استغلالها ووفرت لها فرص النجاح : أن تبث الوعي الديني المطلوب في صفوف المسلمين وأن تثبت خطاهم على المحجة البيضاء، وأن توقظ واعظ الله في قلوبهم، وتربي فيهم الضمير الديني الحي، الذي يدفعهم إلى التمسك بالعروة الوثقى، والاعتصام بحبل الله المتين والالتجاء إلى ركنه الركين، فيعبدون ربهم عن وعي واقتناع وحب وإيمان، ويلتزمون حدود الشريعة في حياتهم الخاصة والعامة، ويحبون الإيمان والطاعة ويكرهون الكفر والفسوق والعصيان.

إن تكرر خطبة الجمعة في كل أسبوع يجعلها وسيلة إعلام إسلامية دائمة، وأداة وعظ وإرشاد مستمر. تساير واقع الناس وتراقبه عن كثب، فتوجهه إلى الخير والصلاح، وتقوده إلى السعادة والفلاح، فإذا ظهر انحراف نبهت إليه، وإذا ظهر شرود بعض أفراد القطيع الإنساني عن الحمى الآمن، دقت ناقوس الخطر لينتبه الشاردون ويعودوا إلى طريق الله المستقيم وإذا طرأ مشكل، وضعت له الحل الإسلامي المناسب، وإذا لاحت في الأفق بوادر المرض والاختلال، أسرعت إلى تهيئ الدواء الناجع، وتقديم الوصفة الطبية الإسلامية النافعة.
ومن أهم الأهداف التي تحققها خطبة الجمعة،إذا أتقنت صناعتها، وأتقن تقديمها، وارتفع بها الخطيب إلى المستوى المطلوب :
1- تقوية الإيمان، وتنقيته من الشوائب الدخيلة، التي تشوه صورته وتفقده نقاءه وصفاءه.
2- تشويق الناس إلى الدين الإسلامي الحنيف، وإشعارهم بأهميته وقيمته، ودفعهم برفق إلى الطاعة وتنفيرهم من المعصية ورفعهم إلى مستوى التجاوب مع أوامر الله ونواهيه فعلا وتركا، دون تلكؤ أ وتردد.
3- حماية الصف الإسلامي من التصدع والانقسام، وحفظ وحدة الرأي العام الإسلامي، لتقوى روابط الأخوة الدينية، وتمتن أواصر التكافل الاجتماعي، ويصبح المسلمون – كما أرادهم الإسلام – كالبنيان يشد بعضهم بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عض وتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
4- حماية الأفراد والجماعات من الأمراض الخلقية والنفسية والاجتماعية، كالتفسخ والانحلال والأحقاد والحزازات، وما إليها من الرذائل التي لا تناسب الإنسان، ولا تليق به كمخلوق مشرف مكلف.
منهج خطبة الجمعة
لاشك أن أي عمل ذي بال – كيفما كان - لا يمكن أن ينجح، ويحقق الأهداف المرجوة منه، إلا إذا كان ممنهجا، أي منظما تنظيما محكما، مبنيا على أسس صالحة متينة، مضبوطا بضوابط سديدة، تحفظ له التوازن وسلامة الاتجاه، وتحميه من الانحراف عن مساره الصحيح.
وخطبة الجمعة – وهي عمل ذ وبال كما أسلفنا – لم تشذ عن هذه القاعدة العامة، فهي بحاجة ماسة إلى منهج واضح يعتمده الخطيب ليسدد خطاه على الدرب القاصد الآمن، ويساعده على القيام بواجبه، وأداء رسالته على الوجه الأكمل، وأهم سمات هذا المنهج :
أ - تحديد الهدف من الخطبة
يعتبر تحديد الخطيب بدقة للهدف من خطبته أول خطوة مباركة يجب عليه أن يخطوها في درب عمله، لتتزن خطواته اللاحقة، ويطرد سيره على النهج القويم، فإذا كان الهدف واضحا عنده، بحيث يعرف بدقة ما يريد أن تحققه خطبته، فإن ذلك يساعده على أداء مهمته أحسن أداء، وإذا كان هدف الخطبة غير واضح عنده بالقدر الكافي، كأن يريد مجرد التحدث إلى الناس، أ ومجرد وعظهم وإرشادهم بدون تحديد طبيعة هذا الحديث، وتعيين وجهة هذا الوعظ والإرشاد، فإن ذلك يربكه، ويعرقل سيره، ويجعل خطبته غير ذات هدف مضبوط وغير ذات اتجاه محدد، ومن ثم لا يتواصل مع مخاطبيه، ولا يعرفون ما يريد منهم، لأنه ه ونفسه لا يعرفه.
ب- اختيار الموضوع المناسب
بعد أن يتبلور الهدف، ويتضح اتضاحا كافيا في ذهن الخطيب، تأتي الخطوة الثانية، وهي اختيار الخطيب بعناية فائقة موضوع خطبته، وحسن اختيار الموضوع يسهم إسهاما كبيرا في نجاح الخطبة، وينبغي في الموضوع المختار :
1- أن يلائم الهدف من الخطبة لأن لكل هدف موضوعا أ ومواضيع – يناسبه ويحققه، أما إذا كان هدف الخطبة في واد،وموضوعها في واد آخر، فالنتيجة هي الاضطراب وإرهاق المخاطبين بدون نتيجة.
2- أن تمس الحاجة إليه، بحيث يهم المخاطبين، ويفيدهم، ويشعرون باحتياجهم إليه في دينهم ودنياهم، لأن خير الغيث ما صادف جدبا – كما يقال -.
3- أن تبلغه عقول المخاطبين، ويكون في متناولهم، ومعنى هذا أن على الخطيب أن يتحاشى الموضوعات التي لا تناسب العامة ولا تفيدهم، بل وترهقهم وتسيء إليهم، وتبلبل أفكارهم، وقد تعطي نتائج عكسية.
ج- التنظيم المحكم
لايكفي الخطيب – لينجح في عمله – أن يحدد الهدف، ويختار الموضوع المناسب، بل لابد أن يخضع خطبته لتنظيم محكم دقيق، لأن الأفكار إذا قدمت للناس منظمة منسقة، يسهل عليهم فهمها واستيعابها، والاقتناع بها، وتمثلها في سلوكهم، وإذا قدمت لهم مشوشة غير مرتبة، صعب عليهم فهمها، وإدراك مراميها.
وتنظيم الخطبة يقتضي من جملة ما يقتضي :
أ- تقسيم الخطبة إلى ثلاثة عناصر أساسية هي:
1- الديباجة –أ والمقدمة – وتشتمل على حمد الله والثناء عليه، والشهادتين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحسن فيها :
- أن تكون قوية، لأنها أول ما يقرع آذان المخاطبين.
- وأن تتضمن الإشارة إلى موضوع الخطبة، وه وما يسمى بلاغيا ببراعة الاستهلال، وذلك يشعر الناس منذ البداية بموضوع الخطبة، ويشوقهم إليه، ويغريهم بمزيد من الإصغاء والانتباه.
2- موضوع الخطبة، وتطرح فيه القضية أ والقضايا التي يريد الخطيب أن يتحدث في شأنها إلى مخاطبيه، وهذا العنصر ه وجوهر الخطبة ولبها، ومن أجله أنشئت وألقيت، ولذلك وجب على الخطيب أن يعطيه ما يستحق من الاهتمام، وأن يشرحه ويوضحه، ويقربه إلى الأذهان، وعليه أن يؤيد كلامه بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومشاهد معبرة من السيرة النبوية العطرة، ومن سير الصحابة الكرام، وسير العلماء والصلحاء.
الخاتمة وتشتمل عادة على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والترضي عن الصحابة الكرام، والدعاء للمسلمين عامتهم وخاصتهم، وينبغي للخطباء أن يتوجهوا في خطبهم إلى الله عز وجل بقلوب خاشعة وألسنة ضارعة،سائلين الهداية والتوفيق إلى أقوم طريق، كما ينبغي لهم أن يعموا المسلمين أجمعين بدعواتهم الصالحة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات كل جمعة (3) وأن يخصوا بالدعاء الصالح ولاة أمور المسلمين لأن صلاحهم صلاح للأمة الإسلامية جمعاء.
وخطبة الجمعة خطبتان : يفصل بينهما بجلسة خفيفة، والثانية كالأولى في عناصرها إلا أنها أقصر منها.
وليس لخطبة الجمعة حجم محدد، ليس للخطيب أن يزيد عليه أ وينقص، لأن حجم الخطبة يرتبط بظروف الناس وأحوالهم، ويرتبط بطبيعة الموضوع الذي يتناوله الخطيب في خطبته. ومع ذلك يستحسن أن تكون الخطبة قصيرة، لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصر الخطبة ويطيل الصلاة (4)، وأوصى بذلك المسلمين فقال :" أطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة "(5)، وكان يقول :" إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه" (6).
ب- تقسيم موضوع الخطبة إلى عناصره الأساسية، وتناول كل عنصر على حدة، دون خلط ودون اضطراب، ودون تقديم لما حقه أن يؤخر، وتأخير لما حقه أن يقدم، ودون تطويل ممل، أ واختصار مخل.فموضوع الخطبة إذا تُنُوِول تناولا منطقيا متسلسلا، ورتبت أفكاره، ونظمت في فقرات متجاوبة متعانقة، بحيث تسلم السابقة المستمعين إلى اللاحقة، دون عناء، ودون قفز على الحواجز، يسهل فهمه وهضمه، ويتيسر التجاوب معه والتأثر به.
د. الجدية اللازمة
ولابد أن يتعامل الخطيب مع موضوع خطبته بالجدية اللازمة، وتقتضي هذه الجدية من الخطيب الموضوعية والصدق والنزاهة وإقامة الحجة على صواب ما يدع وإليه، عن طريق الاستدلال الصحيح،، والاحتجاج المقبول، والاستنتاج السليم، والتوجيه القويم، وهدفه من كل ذلك إيصال الدين الحق إلى الناس، خاليا من الشوائب، نقيا من الغرائب، صافيا كما أنزله الله، ليستظلوا بظلاله الوارفة، ويستمتعوا برحمته الغامرة، ويستضيئوا بنوره الوهاج.
وعلى الخطيب أن يسترشد وه ويتناول موضوع خطبته بالنصوص الشرعية، والأدلة العقلية، بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية، التي تحرك بعض الخطباء، فتفسد خطتهم، وتنسف عملهم،وتحولهم إلى أبواق للدعاية الحزبية أ والنقابية أ والطائفية، وعليه أن يجتنب الأهواء النفسية، والأغراض الشخصية، وكل ما من شأنه أن يبعده عن الجدية اللازمة وينزل بخطبته إلى مستوى الدعاية المغرضة، والديماغوجية الخادعة.
هـ- الوسطية والاعتدال
ولكي ينجح الخطيب، ويمثل الإسلام الذي يتحدث باسمه، وجب عليه أن يتسم بسمة الإسلام الأساسية الأصيلة، وهي سمة الوسطية والاعتدال، وأن يلتزمها في كل الأفكار التي يعرضها في خطبته، فلا يفرط في التشدد والتضييق على الناس، ولايفرط في التساهل والترخيص. وإنما يسلك مسلكا وسطا لا إفراط فيه ولا تفريط و" خير الأمور أوساطها"(7).
وإذا ناقش الخطيب فكرة أ ورأيا، كان عليه أن يتجنب الانفعال والتشنج، وإذا حلل أ وانتقد أ واستدرك أ وصوب أ وخطأ، وجب عليه أن يحافظ على توازنه وهدوئه، فيقدم للناس ما يقدم، ويستحسن ما يستحسن ويرد ما يرد، ويوجه إلى ما يراه صوابا، برباطة جأش، وهدوء أعصاب.
وتحليه بحلية الوسطية والاعتدال – بعيدا عن شدائد المتشددين، ورخص المرخصين وشواذ الشاذين – يوفر له ج والإقناع والتأثير، ويجعل قلوب مخاطبيه تحبه، وتميل إليه،وتثق به، وتقتنع بصواب آرائه، وقبل ذلك وبعده، يجعله منسجما تمام الانسجام مع دين الإسلام الذي يدع وإليه، ويرغب الناس في التحلي بفضائله.
أما التشنج والانفعال، وما يترتب عليهما من الإفراط والتفريط، ومن فقدان التوازن في الأفعال والأقوال، فيجعلان الخطيب في موقف حرج متأزم لا يحسد عليه، ويفسدان عليه أمره، وينفران الناس منه ومن خطبه.
و- صحة المعلومات المقدمة
ولا يكتسب عمل الخطيب المشروعية اللازمة، والمصداقية الضرورية، إلا إذا كانت المعلومات التي يقدمها في خطبه صحيحة، وكانت التوجيهات التي يوجهها إلى مخاطبيه سديدة، وكانت الأحكام الدينية التي يزودهم بها سليمة مقبولة شرعا.
وهذا يعني – من جملة ما يعني – أن يتحاشى الخطيب الأخبار الواهية، والأحاديث الموضوعة بل والضعيفة أيضا، وأن يقتصر في ميدان الاستشهاد بالحديث، على ما ه وصحيح أ وحسن، لأن في الأحاديث الصحيحة والحسنة ما يغني عن الأحاديث الضعيفة (8) . والبناء عندما ي ُ بنى على أساس صحيح، يباركه الله فيقي من الحر والبرد، وتترتب عليه نتائج طيبة للغاية.
وعلى الخطيب أن يتحاشى في خطبه الخرافات والأوهام والأباطيل، لأنه مؤتمن على المخاطبين، ويتحدث إليهم بصفته وارثا للرسول صلى الله عليه وسلم، ونائبا عن الإمام الأعظم، فوجب عليه أن يكون لهم ناصحا أمينا، وأن يزودهم بما يفيدهم، وأن يجنبهم ما لا يناسبهم من الأساطير والشعوذة والتدجيل، وقد شاع عند علماءنا رحمهم الله: " إذا نقلت فالصحة، وإذا ادعيت فالدليل".
ز. مراعاة حال المخاطبين
لابد للخطيب إذا أراد أن تنجح خطبته، وتحقق النتائج المطلوبة، من أن يراعي حال من يخاطبهم لأن ذلك شرط ضروري للتواصل معهم. فعلى الخطيب أن يعلم أنه يخاطب فئات مختلفة في أعمارها، مختلفة في مستوياتها الثقافية، مختلفة في اهتماماتها وتطلعاتها، وعليه إذا علم ذلك، أن يحاول الأخذ بأيديهم جميعا ليفيدهم جميعا ويقنعهم جميعا ويؤثر عليهم جميعا، وذلك يحتم عليه أن ينوع أساليبه، لتجد عنده كل فئة من تلك الفئات ما يناسبها، ويلبي رغباتها، ويجيب عن تساؤلاتها، وينقذها من حيرتها، ويضع معالم الطريق أمامها، لأنه إذا لم يفعل، سيرضي فئة ويغضب فئة أخرى، وسيقع في أحد الأمرين، وهما: الإسفاف على الخواص أوالإبهام على العوام، وكلاهما غير مقبول، وكلاهما يسئ إلى الخطيب، ويعرضه في مهمته للفشل. والجمع بين إفادة الخاصة والتأثير عليها، وإفادة العامة والتأثير عليها.
وه والهدف المنشود، وه وبدون شك مهمة صعبة، تواجه الخطيب وتضع أمامه تحديا كبيرا، وعليه أن يقتحم تلك العقبة ويكون في المستوى المطلوب، ويسلك في خطبه مسلكا وسطا، يجد فيه المثقفون المتنورون ضالتهم المنشودة، ويجد فيه العوام والأميون أيضا ضالتهم المنشودة.
والخطيب الذي يحلق في خطبه ويتأنق، ويتناول القضايا الفكرية العويصة قد يرضي أذواق الخاصة، وقد ينال إعجابها، ولكنه يرهق العامة ويتعبها بدون طائل، والخطيب الذي يساير العامة، وينزل بخطبه – فكرا وأسلوبا – إلى مستواها، قد يرضيها، وقد يفيدها، وقد يؤثر عليها، ولكنه يظلم الخاصة ويتجاهلها ويحرمها من حقها الذي جاءت إلى المسجد من أجله، والجمع بين الأمرين مطلب نبيل، يستهدفه الخطباء المرموقون، ويتطلع إليه الدعاة الموفقون، ويتطلب كثيرا من الحكمة واليقظة والانتباه – ولا يصير إليه إلا من أوتي الملكة الضرورية في فن الخطابة، ورزق التوفيق من الله عز وجل، على أن الدربة تسهل الصعاب، وتذلل العقاب، والمحاولات الجادة المخلصة، تقرب البعيد، وتخلق ما يشبه المستحيل.
ومراعاة حال المخاطبين، تقتضي من الخطيب:
1- أن يعرف نفسيات مخاطبيه.
2- أن يعرف ظروفهم وأحوالهم.
3- أن يخاطبهم بالأسلوب الذي يناسبهم، عملا بقول علي كرم الله وجهه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله "(9).
ن ـ احترام الثوابت الدينية
يجب على الخطيب لكي يسهم في جمع كلمة الأمة المغربية، وتوحيد صفها، ودفع أسباب الفرقة عنها، أن يتمسك في خطبه وإرشاداته وتوجيهاته بالثوابت الدينية، التي ارتضاها المغاربة، واختاروها اختيارا واعيا منذ أمد بعيد، وهي:
1.المذهب المالكي، الذي عبدوا الله على هديه، وارتضوه أساسا متينا لعباداتهم ومعاملاتهم، وأحسوا بانسجامه معهم وملاءمته لأوضاعهم، وتوافقه مع طبيعة حياتهم الخاصة والعامة.
2- العقيدة الأشعرية التي شب عليها في الربوع المغربية الصغير، وشب عليها الكبير، منذ عهد مبكر، ووجدوا في مبادئها وأصولها وضوابطها ما حمى ويحمي عقيدتهم من الزيغ والانحراف.
3- التصوف السني الذي سار في ركاب القرآن والحديث، واهتم بمجاهدة النفس وتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، بعيدا عن الشطحات الصوفية، والتأويلات الفلسفية التي استبدت بغلاة الصوفية فأفقدتهم تماسكهم العقدي وتوازنهم الديني، وزجت بهم في أتون التصورات الخيالية، والتمويهات الباطلة.
وقد جمع ابن عاشر رحمه الله في "المرشد المعين"، هذه الثوابت، التي تمسك بها المغاربة واهتموا بدراستها وتدريسها، ووجدوا بركة ذلك عندما قال:
وبعد فالعون من الله المجيد *** في نظم أبيات للأمـــي تفيــــد
في عقد الأشعري وفقه مالك*** وفي طريقة الجنيد الســـــالك
وقد وجد المغاربة في ظل هذه الثوابت راحتهم واطمئنانهم، وجنوا من التمسك بها الأمن والاستقرار، فوجب على الخطيب أن يحترمها ويلتزم بها في جميع خطبه، ولا يجوز له أن يخرج عنها ويفسد هذا الج والصحي، ويأتي في العقيدة والفقه والتصوف بآراء غريبة عن المغرب والمغاربة، يبلبل بها الأفكار، ويزعزع بها الثقة وينشر بها الخلاف المؤدي إلى سوء الظن، وما قد يترتب عليه من تجهيل وتبديع وتفسيق وتكفير، والمغرب في غنى عن هذه المآسي التي اصطلت بنيرانها كثير من الشعوب الإسلامية، وقد نجاه الله منها، ومن آثارها السلبية في القرون الماضية، فوجب أن يظل بعيدا عنها مصونا معافى محصنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
مصادر خطبة الجمعة
كما أن الخطبة تحتاج إلى التقيد بمنهج سديد، وخطة سليمة،فهي كذلك تحتاج إلى أن تنتقى مصادرها ومراجعها ليكون ما يستقي منها، ويقدم للخاطبين سليما صحيحا مقبولا، يمكنهم أن يطمئنوا إليه، ويثقوا بصوابه وصلاحه، ويصوغوا حياتهم الخاصة والعامة على هديه وفي ضوئه.
ذلك أن مصادر الخطبة ومراجعها،هي منابعها وروافدها،فإذا كانت تلك المنابع والروافد صافية، وكان ماؤها عذبا زلالا،نفعت الخطبة وأزالت العطش الروحي، وأحيت الوازع الديني، وصقلت الفكر والوجدان، ونورت الذهن، وارتقت بالإنسان في مدارج الكمال البشري، ومكنته من أن يؤدي دور الخلافة المنوط بها خير أداء.
أما إذا كانت تلك المنابع والروافد عكرة غير صافية، وكان ماؤها آسنا عفنا،فإن الخطبة يكون ضررها أكثر من نفعها، وإفسادها أكثر من إصلاحها، ويكون نصيب المستمعين إليها منها التخدير والتنويم،بدل التنبيه والتقويم.
ولذلك كان على الخطيب أن يختار بعناية فائقة المصادر والمراجع التي يرجع إليها، ويستمد منها مادة خطبته، وعليه أن يعتمد على الكتب الجيدة السليمة التي تنور فكره وفكر مخاطبيه، وتغذي غذاء روحيا صحيا وجدانه ووجدانهم، وتثبت على المحجة البيضاء قدمه وأقدامهم.
ويمكن تصنيف مصادر الخطبة ومراجعها إلى الفئات التالية:
الفئة الأولى ويمثلها القرآن الكريم وما يرتبط به من كتب التفسير المتنوعة والمتكاملة، ولا يمكن للخطيب أن يتجاهل القرآن الكريم، وينصرف عنه عند إعداد خطبته،لأنه دستور المسلمين الخالد، ورسالة الله التي ضمنها الهداية والإرشاد، وأنزلها على خاتم الأنبياء والرسل، لتعالج أمراض من استجاب لها وتثبت خطاه على طريق الله المستقيم، وتوجهه إلى الخير والصلاح، والسعادة العاجلة والآجلة.
والقرآن الكريم منجم غني يجد فيه الخطيب من الرقائق والمواعظ والأحكام ما يرقق القلوب، ويزكي النفوس ويسم وبالمخاطبين إلى عالم الطهر والفضيلة وينأى بهم عن أوحال الرجز والرذيلة.
وعلى الخطيب أن يستعين في فهم آيات القرآن الكريم بأصح التفاسير وأبعدها عن الإسرائيليات والتأويلات الباطلة،كتفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير الطبري، وتفسير سيد قطب، وتفسير ابن عطية، وتفسير القرطبي، وأحكام القرآن لابن العربي وصفوة التفاسير للصابوني...
الفئة الثانية ويمثلها الحديث الشريف، وما يرتبط به من شروح متنوعة متكاملة، والحديث كما لا يخفى هوالمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهوالتفسير النموذجي للقرآن الكريم. فهوالمفسر للكتاب وإنما نطق النبي لنا به النبي عن ربه والخطيب لا يسعه جهله أ وتجاهله، ولا يمكن أن يستغني عنه في خطبته،لأنه يعطيه مجالا خصبا للحديث إلى الناس فيما ينفعهم وتزويدهم بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم.
وفي هذا الصدد قال الدكتور القرضاوي:" السنة بعد القرآن الكريم هي المورد الذي لا ينضب، والكنز الذي لا ينفد ليستمد منه الداعية في خطبته إذا خطب، وفي موعظته إذا وعظ، وفي درسه إذا درس،ففيها من التوجيهات المشرقة، والحجج الدامغة، والحكم البالغة، والكلم الجامعة، والمواعظ المؤثرة، والأمثال المعبرة، والقصص الهادفة، وألوان الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ما يلين القلوب الجامدة، ويحرك العزائم الهامدة، وينبه العقول الغافلة،فهي تسير في خط القرآن في مخاطبة كيان الإنسان كله:عقله وقلبه، وهي تعمل على تكوين الشخصية المسلمة المتكاملة ذات العقل الذكي، والقلب النقي والجسم القوي " ( 10 ).
وعلى الخطيب أن يتحاشى الأحاديث الواهية والمنكرة والموضوعة، وأن يعتمد على الكتب الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم، وموطإ الإمام مالك، وأن ينتقى من كتب الحديث الأخرى ما نص جهابذة الحديث ونقاده على صحته أ وحسنه،كصحيح ابن ماجة وصحيح الترمذي وصحيح النسائي وصحيح أبي داود للمحدث ناصر الدين الألباني. ومكتبة الحديث غنية – والحمد لله – بالمصنفات الحديثية المحققة المنقحة،التي يستطيع الخطيب أن يرتاح إليها، ويطمئن إلى سلامة ما ورد فيها، والمقام لا يسمح لنا هنا بتتبعها ( 11 ).
الفئة الثالثة، وتمثلها السيرة النبوية وكتبها المتنوعة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيق نموذجي للقرآن الكريم :لأنه عليه الصلاة والسلام "كان خلقه القرآن" ( 12 ). كما وصفته عائشة رضي الله عنها. والخطيب بحاجة ماسة إلى السيرة النبوية ليستفيد في خطبه من كنوزها الثمينة، ودروسها البليغة، وليضع أمام مخاطبيه النموذج الحي الذي طبق أحسن تطبيق مايدعوهم إليه، وه وبحاجة ماسة كذلك إلى تحاشي الأخبار الواهية، وانتقاء ما صح أو حسن من الأخبار،لأن كتب السيرة ككتب الحديث عامة،تسرب إليها الواهي والمنكر والموضوع. وليعلم القارىء بأن السير تأتي بما صح وما قد أنكرا فاحتاج الأمر إلى الغربلة والتنقيح والانتقاء،حتى لا يقدم السم للمخاطبين في الدسم.
ومن كتب السيرة التي يمكن للخطيب أن يعتمد عليها ويستعين بها، وينتقي منها ما يصلح تقديمه للمخاطبين:زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، وسيرة ابن إسحاق تحقيق محمد حميد الله وسيرة ابن هشام تحقيق مصطفى السقا وآخرين، وتحقيق جمال ثابت وآخرين، والسيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله أحمد، والمغازي لموسى بن عقبة جمع
وتخريج محمد باقشيش أبومالك، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة للدكتور محمد أمحزون، والرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمان المباركفوري، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، والسيرة النبوية لشمس الدين محمد الذهبي،تحقيق حسام الدين القدسي، والشفا بتعريف حقوق المصطفى تحقيق أبوعبد الرحمان محمد العلاوي، وتحقيق عبده علي كوشك، وصحيح السيرة النبوية لإبراهيم العلي، وصحيح السيرة النبوية للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
وغاية السول في سيرة الرسول لعبد الباسط بن خليل بن شاهين تحقيق الدكتور محمد كمال الدين عز الدين علي، والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء للكلاعي الأندلسي، والمقتفى من سيرة المصطفى للحسن بن عمر بن حبيب تحقيق مصطفى محمد حسين الذهبي، وفقه السيرة لمحمد سعيد رمضان البوطي، وفقه السيرة لمحمد الغزالي.
الفئة الرابعة : وتضم بقية المصادر والمراجع المنتمية لمجالات ثقافية مختلفة ومنها فيما يخص العقيدة الأشعرية :خريدة الدردير، والسنوسية، وعقيدة المرشد المعين بشرح محمد طيب بن كيران، وعقد الجواهر على عقيدة عبد الحق الباهر، وعقيدة أبي عمر السلالجي وشرحها، ولامية الزواوي الجزائري في التوحيد وشرحها لأبي زيد التمنارتي.....
ومنها في الفقه المالكي:المرشد المعين لابن عاشر وشروحه، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني وشروحها،والقرطبية، والقوانين الفقهية لابن جزي، ومختصر خليل وشروحه، ومقدمات ابن رشد، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، والبيان والتحصيل لابن رشد والمدونة لسحنون...
ومنها في التصوف السني:كتاب مبادىء التصوف وهوادي التعرف من "المرشد المعين" لابن عاشر، وإحياء علوم الدين للغزالي، وكتب زروق وكتب الشعراني.....
ومنها في مجالات متنوعة الخطب المنبرية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1403 هـ، الخطب المنبرية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1404 هـ، وخطبة الجمعة المنهج والمقاصد في ضوء الكتاب والسنة من إعداد المجلس العلمي المحلي للدار البيضاء، وإسلامنا للسيد سابق، ومن كنوز السنة للصابوني، والأدب النبوي لمحمد عبد العزيز الخولي، ومختار الأحاديث النبوية والحكم المحمدية لأحمد الهاشمي، والأدب المفرد للبخاري، والحلال والحرام في الإسلام ليوسف القرضاوي وحياة الصحابة لمحمد يوسف الكانادهلوي....إلخ واللائحة طويلة.
وبعد،فهذه نظرات سريعة ألقيناها على خطبة الجمعة من حيث منهجها ومصادرها بهدف الإسهام في تعبيد الطريق أمام السادة الخطباء ومساعدتهم بما تيسر على أداء واجبهم النبيل على الوجه الأكمل،فإن وفقت إلى ما أردت،فالتوفيق من الله عز وجل، وإن جرت الرياح بما لا تشتهي سفينتي فحسبي حسن النية، وبذل الجهد المستطاع، ونية المؤمن أبلغ من عمله، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
--------------------------------
الهوامش:
( 1 )- سورة الجمعة الآية 9
( 2 )- رواه الإمام مالك في الموطأ ( شرح الزرقاني على الموطأ 1/214)
( 3 )- رواه البزار والطبراني ( مجمع الزوائد : 2/190 )
( 4 )- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1/117
( 5 )- أخرجه الإمام مسلم في كتاب الجمعة من صحيحه ( شرح النواوي 6/406 الحديث رقم 869 )
( 6 )- زاد المعاد 1/117
( 7 )- انظر في تخريج هذا الحديث ودرجته المقاصد الحسنة للسخاوي ص 205 رقم الحديث 455
( 8 )- انظر فتوى لابن حجر الهيثمي بعزل الخطيب الذي يبين مستنده في رواية الحديث في كتاب " كيف نتعامل من السنة" للدكتور يوسف القرضاوي ص 69
( 9 )- صحيح البخاري، كتاب العلم "1/29
( 10 )- كيف نتعامل مع السنة النبوية،ص61
( 11 )- انظر بعض هذه المصنفات المحققة في المرجع السابق ص 62-65
( 12 )- أخرجه النسائي ( تفسير ابن كثير 3/237 )

آفاق التجديد

فضيلة الأستاذ الدكتور اليزيد الراضي إلى جانب فضيلة الأستاذ الدكتور سلمان العودة

سبق لفضيلة الأستاذ العلامة الدكتور اليزيد الراضي أن شارك في المؤتمر الثاني للمركز العالمي للتجديد والترشيد المنظم بالعاصمة الموريتانية نواكشوط أيام 26-27-28 مارس 2008 تحت شعار - ترشيد الأفكار والسلوك، وفي ما يلي نص المشاركة، نقلا عن موقع المجلس العلمي الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
لكي نكون على بينة تامة من أمر التجديد، ونتعرف على آفاقه، ومدى سعتها أو ضيقها، وندرك ما يتطلبه السير على دربه المستقيم والملتوي في نفس الوقت، من مؤهلات و كفاءات، و ما يجب أن يحاط به حماه من ضوابط و ضمانات، أجدني ملزما بتقديم ثلاث إضاءات من شأنها أن تجعل تصورنا للتجديد وآفاقه تصورا سليما مقبولا، وأن تسدد خطا المجددين على الطريق القاصد الآمن، وأن تبعد عنهم أسباب الانزلاق، وعوامل الفشـل، وهذه الإضاءات هي الآتية:
1) الإضاءة الأولى: التجديد ضرورة ملحة
لا يختلف اثنان في أن التجديد مطلوب و مرغوب فيه شرعا و عقلا و عادة، أما الشرع فللحديث الشريف الصحيح: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ". (حديث صحيح أخرجه أبو داود، والحاكم في المستدرك والبيهقي في المعرفة عن أبي هريرة (الجامع الصغير للسيوطي 1/282 )).
وأما العقل والعـادة، فلأن مـا لا يتجـدد يصاب بالـبـلى، ويتجاوز، ويعفـو عـليه الزمـان، ويصبح غير قابل للتداول والاستعمال.
وإذا كان التجديد أمرا مرغوبا فيه في كل زمان ومكان، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح ضرورة ملحة، تفرضه طبيعة الحياة المعاصرة، وما تولد عنها من علاقات بالغة التعقيد، فردية وجماعية، وطنية ودولية، فهو قاطرة التاريخ – لا الثورة كما يزعم الشيوعيون – وهو مظهر بارز من مظاهر مرونة الإسلام، ووسيلة من وسائل مسايرته للعصر، ومواكبته للحياة المتطورة المتجددة.
2) الإضاءة الثانية : مجالات التجديد:
اتسعت مجالات التجديد في عصرنا الحاضر، ورحبت آفاقه، ووعدت بالعطاء الكثير:
- فأساليب الدعوة إلى الله، والتبشير بالإسلام بحاجة ماسة إلى التجديد لتناسب العصـر، وتلائم الذوق العام، وتمكن الدعاة من مخاطبة الناس بما يفهمون، إقناعا لهم، وتأثيرا عليهـم، وجذبا لهم إلى الإسلام، ليؤمنوا به، ويخضعوا لضوابطه، وينقادوا لأحكامه، ويمتثلوا أخلاقه.
- والوضع العالمي و ما أفرزه من علاقات دولية، ومن تواصل واحتكاك قوي بين المسلمين وغيرهم، يفتح أفاقا واسعة للاجتهاد والتجديد، والمسلمون لا يسعهم إلا الانخراط في هذا الوضع، وعليهم أن يجتهدوا ويجددوا، ليكون انخراطهم فيه إيجابيا نافعا مؤثرا.
- وعيش الأقليات الإسلامية في دول كثيرة في العالم، يفتح أمام المسلمين آفاقا رحبة للاجتهاد والتجديد، وعلى علماء المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ هذه الأقليات، مما تشعر به من غربة ثقيلة، تولدت عن شعورها بالضياع وعدم الانتماء، ولا يتم هذا الإنقاذ إلا إذا تمكنوا من وضع تشريـع مناسب للأقلـيات، يراعي ظروفها وما يحيط بحاجياتها من ملابسـات وتعقيدات، ويراعي في الوقت نفسه مبادئ الإسلام ومثله وأحكامه.
- والنوازل والقضايا التي تفرزها الحياة المعاصرة، ويكشف عنها باستمرار تقدم العـلـم، وتطور السياسة والاقتصاد والاجتماع ، تفتح أمام المسلميـن آفاقا ومجالات للاجتهاد و التجديد ... .
و هذه الآفاق الواسعة لا بد للمسلمين من اقتحامها، وإلا تخلفوا - وتخلف دينهم بسببهم - عن الركب الحضاري الزاحف، وضلوا سواء السبيل، ولا يقبل منهم أن يتفرجوا على الأحداث، و يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما يواجههم من أسئلة متلاحقة، تطلب الأجوبة بإلحاح، وترفض الإمهال والإهمال.
3) الإضاءة الثالثة : معالم في طريق التجديد:
إن التجديد يقدر ما هو مطلوب و مرغوب فيه، يحتاج إلى كفاءات ومؤهلات، بدون أن يصبح أداة للهدم، ووسيلة للفوضى والانفلات و الفتنة، وإن آفاقه بقدر ما هي واسعة وواعدة ، يحتاج روادها إلى مزيد من الاحتراس واليقظة، وإلا أساءوا – من حيث يريدون الإحسان – إلى أنفسهم و إلى دينهم وإلى الحياة، وما ذلك إلا لأن التجديد سلاح ذو حدين: قد يكون مصدر خير كثيف مفيد، وقد يكون مصدر شر مستطير مبيد.
- فإن دعت الحاجة إليه، وانطوى على مصلحة راجحة، وتوافرت شروطه، وحسنت نية من يمارسه، أعطى نتائج طيبة، وحقق مكاسب ثمينة، وأفاد الإسلام والمسلمين، ويسر الحياة، وجنب الأحياء المضايق والشدائد، وأزاح عنهم الإصر والأغلال، وأراحهم من العنت والحرج.
- وإن لم تدع الحاجة إليه، و لم تتوافر شروطه، أو رافقته نية سيئة، أعطى نتائج عكسية، وأساء إلى الإسلام والمسلمين، وسبب له ولهم متاعب جمة، ونزل به وبهم من قمة الجد والحكمة في معالجة القضايا إلى حضيض الهزل، ودرك العبث.
- وحماية للتجديد من عبث العابثين، وتثبيتا لأقدام المجدديـن على المحجـة البيضاء، وترشيدا لعملهم، وإبعادا لهم عن المزالق والمخاطر، لا بد من إبراز معالم في طريق التجديد، تدل من اهتدى بها على السبيل السوي، وتعينه على تحقيق أهداف التجديد المرجوة، وعلى رأس هذه المعالم :
1. التجديد اجتهـاد :لا يأتي التجديد إلا عن طريق الاجتهاد، فهو نتيجة من نتائجه، وثمرة من ثمرات شجرته.
و نتيجة ذلك أن الضمانات التي أحيطت بها عملية الاجتهاد، لا بد أن تحاط بها عملية التجديد، وأن الشروط الكثيرة التي اشترطها علماء الإسلام في الاجتهاد والمجتهدين، لا بد أن تتوافر في التجديد والمجددين، وعلى رأس هذه الشروط ثقافة واسعـة، وإلمام كبيـر بالقـرآن والحديث والأصول، ومدارك الإجماع والقياس وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه في مظانه.
و هكذا نخلص إلى أن للتجديد – كما الاجتهاد – ضوابط لا بد من مراعاتها، ويمكن اختزالها فيما يلي :
أ) احترام النصوص الشرعية القرآنية و الحديثية، واحترامها يتطلب :
- التأكد من صحتها أو حسنها، ليقبل إعمالها و الاحتجاج بها.
- جمع النصوص المتعلقة بالموضوع المراد التجديد فيه، وتحاشي انتقاء ما يوافق الهوى وترك ما لا يـوافـقـه.
-إعمال النصوص كلها ما أمكن ذلك، وعدم الالتجاء إلى إعمال البعض وإهمال البعض الآخر إلا إذا تعذر الجمع والتوفيق، وفي هذه الحالة يجب الخضوع للقواعد المرعية.
- عدم التجديد – وعدم الاجتهاد – فيما ورد فيه نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، إذ " لا اجتهاد في مورد النص "، والتجديد اجتهاد.
ب) احترام لغة النصوص الشرعية، واحترام ضوابط استعمالاتها الحقيقية والمجازية، فلا يجوز للمجدد أن يحمل الألفاظ ما لا تحتمل، لأن ذلك تعسف وافتيات، والانزياج اللغوي لا محل له في لسان الشارع الحكيم، وما يسميه بعض الصوفية بالمعنى الباطن، لا تقوم به المحجة، والتأويل له شروطه وضوابطه.
ج) احترام المقاصد الشرعية التي تسد الاتجاه، وتشكل بوصلة المجتهدين والمستنبطين والمجددين، ولا يقبل من أي مجتهد أو مجدد أن يتناقض معها، ويسير في غير اتجاههـا.
د) فقه الواقع بملابساته وتعقيداته، لأن فقهه ضروري لتنزيل النصوص الشرعية عليه.
هـ) الورع الشديد والنية الحسنة، باعتبارهما حارسين أمينين للدين و الدنيا، وبدونهما يستوي العلم و الجهل، ولا تنفع النصوص ولا المقاصد، ولا فهم الواقع المعـيـش.
2. التجديد في خدمة أهداف نبيلة :
التجديد ليس مطلوبا لذاته، بل هو مطلوب لأهداف نبيلة يحققها، و لغايات سامية يتغياها، وهذه الأهداف والغايات هي التي تبرره، وتعطيه المشروعية، ومنها :
أ) إدماج الدين في المنظومة الحياتية، ليصبح عنصرا أساسيا فيها، وليعيش جنبا إلى جنب، في وئام و سلام، وتعاون و تكامل وانسجام، مع السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومع كل ما هو ضروري للحياة البشرية، ولكي لا ينظر إليه على أنه شيء هامشي أو ثانوي، أو على أنه قضية شخصية، تهم الفرد ولا تهم المجـمـوع .
والدين كما لا يخفى قضية القضايا، و لب المنظومة الحياتية المعددة العناصر، وهو حجر الأساس في بنائها، وعزله عنها إساءة بالغة إليه وإليها.
ب) توفير الأمن الروحي للمتدينين، وحمايتهم من الأزمات النفسية، والتناقضات الداخليـة، والضغوط الخارجية، التي توقعهم في الحرج، وتحول بينهم و بيـن سعـادة النفـس، وطمأنينة البال .
وإن إبعاد الدين عن مسرح الأحداث، وعن مراكز التوجيه والقرار، لمن أهم ما ينغص حياة المتدينين، لأنه يشعرهم بالغربة، ويزج بهم في أتون التناقض – المفتعل – بين مقومات الحياة الأساسية، التي هي الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وهذا التناقض يؤرق الجفون، ويقض المضاجع، ويشعر بأن أوضاع الحياة غير عادية وغير مريحة.
ج ) تفقيه الناس في الدين، وتبصيرهم بحقوقهم وواجباتهم، وبث الوعي الإسلامي الصحيح في نفوسهم، وإيقاظ واعظ الله في قلوبهم، ليتبينوا في عالم غريب مليء بالتناقضات، مواقع خطاهم، ويعبدوا الله على بينة وبصيرة.
د) نشر ثقافة الوسطية والاعتدال و التيسير والتـسامح والحـوار، ليتـشبع بها الأفـراد والجماعات، وتتحول إلى أخلاق راسخة، وعادات متأصلـة، توجه الأفهــام والتصـورات، وتطيع السلوك والممارسات .
هـ) تطويق الخلاف، وتجفيف منابعه، والقضاء المبرم على أسباب الفتنـة.
و) إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الطارئة، و تقديم الأجوبة الشافية للأسئلة الكثيرة، التي تطرحها الحياة المعاصرة، في شتى مناحي الحياة .
ز) قطع الطريق أمام المتطفلين على الحقل الديني، وسحب البساط من تحت أقدام المتنطعين، الذين يهدمون باسم البناء، ويسيئون باسم الإحسان، وينفرون من الدين باسم الدعوة إلى الله، ويصدق عليهم من حيث يشعرون أولا يشعرون: " قل هل ننبئكـم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"  (سورة الكهـف، الآيتان : 103 – 104 )
ح) رد الاعتبار للـديـن، وتلمـيـع صورتـه، وتقـديمه للناس، عـلى أنـه ديـن الأخــوة والمحبة، ودين السلم والتسامح، ودين التعارف والتعاون على البر والتقوى، وديـن اليسـر والتبشير، ودين العلم والعقل.
3. التجديد غير الإلغــاء :
توهم بعض الناس أن التجديد هو الإلغـاء و التعويض، وذلك غير صحيح، كلما تعلق التجديد بالدين، لأن الدين الإسلامي الحنيف الذي ختم الله به الديانات السماوية، وأتم به النعمة، ورضيه دين الإنسانية جمعاء، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل الإلغاء والتبديل، إذ هو تنزيل من حكيم حميدـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفـه.
ونص الحديث الشريف الذي هو عمدة التجديد و المجددين، يرفض أن يكون المراد بالتجديد هو التغيير والتبديل، فقد ورد فيه " من يجدد لها دينها "، ولم يرد فيه " من يغير لها دينها "، والفرق بين العبارتين واضح جدا.
و جدة الشيء هي حالته التي وجد عليها، عندما صنع لأول مرة (ثوب جديد، منزل جديد، سيارة جديدة، كتاب جديد... ) .
فإذا أصيب الشيء الجديد بالبلى والقدم، و طمست معالمه، وشوهت صورته، احتاج إلى تجديده، و تجديده يعني العودة به إلى حالته الأصلية وإزالة ما ترسب عليه أو علق به بفعل السنين .
و لذلك فتجديد الدين يعني العودة به إلى صفائه الأول، وجماله الأول، و جلاله الأول، الذي كان عليه في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا ما يدل عليه ظاهر حديث التجديد، و يؤيده و يقويه ويسير في ركابه، قول الرسول صلى الله عليه و سلم: " يجل هذا الدين من كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطليـن "  .
ويمكن أن نحصر مظاهر تجديد الدين في الأمور التاليـة:
أ) إزالة ما علق به من الأوهام والخرافات، وتنقيته من كل الشوائب التي تلطخ وجهه، وتشوه صورته.
ب) إحياء ما أميت منه، لتكتمل صورته، وتتضح ملامحه.
ج) تشجيع العمل بما أهمل من أوامره، ودعوة الناس إلى الانقياد لكل أحكامه وضوابطه.
د) إعادة عرضه بطريقة مشوقـة، تضمن تجـاوب الناس معه، واستجابتهـم لدعوتـه، واعتزازهم باعتناقـه .
4. التجديد في الوسائل و الغـايـات :
لا بد لمن يريد التجديد في الدين أن يميز بين الوسائل والغايات، وبين الثابت والمتغير، لأن الوسائل تقبل التجديد، والغايات لا تقبلها، والمتغيرات تقبل التجديد، والثوابت لا تقبلها .
فالوسائل التي كانت صالحة بالأمس، لم تعد صالحة اليوم، والوسائل الصالحة اليوم، قد لا تصلح غدا أو بعد غد، وغايات الإسلام وأهدافه الكبرى لا تؤثرعليها السنون، ولا تتقادم، بل تحافظ على صلاحيتها المطلقة التي لا يحدها زمان و لا مكان .
و على هذا فالتجديد في الغايات والثوابت جهل وعبث و فتنة، والجمود على الوسائل والأمور القابلة للتطور، تضييق للواسع وتحجير وموت .
5. مزالق في الطريـق :
يجب على المجددين أن يحترسوا ويحتاطوا ويحذروا الانزلاق، لأن طريق التجديد محفوف بالمخاطر، والسير فيه يحتاج إلى كثير من اليقظة والانتباه، ومن مزالق طريق التجديد:
أ) أن يتملق المجدد الواقع، ويبرر أخطاءه، ويضفي المشروعية على انحرافاته، وقد كثر - مع الأسف – المجـددون الذين يجددون تحت الطلب، ويمـررون الانزلاقـات الخطيـرة، والانحرافات الكثيرة.
ب) أن تحرك المجدد ردود أفعال، ويسعى وراء الانتقام، وتصفية الحساب، لأن وقوع المجد تحت تأثير هذه الضغوط النفسية، وانصياعه لتياراتها الجارفة، يعمي بصره، و بصيرته، ويدفعه إلى اتخاذ مواقف غير مسؤولة، وغير سليمـة .
ج) أن يحاول المجدد تقنين مزاجه، و إضفاء المشروعية الدينية على هواه، فيجدد إذا دعاه مزاجه وهواه إلى التجديد، ويكف عن التجديد إذا لم يتجاوب التجديد مع ميوله وتطلعاته، والأمزجة والأهواء لا تتحكم في التجديد إلا أفسدته، ومالت به عن الجادة.
6. التجديد عمل خاصة الخاصة :
لا يملك القدرة على التجديد إلا أفذاذ قليلون جدا، لا يجود بهم الزمان إلا في فترات زمنية متباعدة (مرة كل مائة سنة )، وذلك لحاجتهم إلى كفاءات عالية وخبرات ضافية، ونية صافية .
وحديث التجديد المذكور سابقا يشير إلى عزة المجددين و قلة عددهم، وتباعد فترات ظهورهم، ويدل على ذلك في الحديث:
• قوله صلى الله عليه و سلم : " على رأس كل مائة سنة "، ودلالته على ما ذكرناه واضحة .
• قوله صلى الله عليه و سلم : " يبعث لهذه الأمة "، عوض " يقيض لهذه الأمة "، لأن التعبير بالبعث جعل أمر المجددين شبيها إلى حد ما بأمر الرسل الذين يبعثون أقوامهم  في فترات متباعدة .
ومن قرأ هذا الحديث، وأمعن فيه النظر، ووقف وقفات متأنية أمام بعض ألفاظه وعباراته، سيدرك ما أشرنا إليه، وسيتحاشى تزكية النفس، وادعاء أنه من المجددين الأفذاذ.
7. التجديد و الكفاءات المتعددة :
لا تستقل بالتجديد كفاءة واحدة، وإن كانت عالية، و ذات مصداقية عظيمة، بل لا بد من أن تتعاون عليه كفاءات متعددة، يعضد بعضها بعضا، ويتمم بعضها بعضا، وذلك حماية للتجديد من السقوط في هوة الأخطاء السحيقة.
و عليه فالفقهاء وحدهم لا يستطيعون أن يجددوا، و إن بلغوا ما بلغوا من التضلع في علوم الشريعة، لأن التجديد يحتاج إلى كفاءات أخرى لا يملكونها، لأنها لا تدخل في تخصصاتهم، ولكن يملكها غيرهم، فوجب عليهم أن يستعينوا بذوي التخصصات الأخرى، لتتضافر التخصصات المختلفة، وتتعاون الكفاءات المتعددة، وتكثر بذلك فرص النجاح و السداد والرشاد، وتقل فرص الحيرة والتيه و الضلال .
8.  تجديد النفس قبل تجديد الدين :
لا يصلح لتجديد الدين من عجز عن تجديد نفسه، ولم يزل عنها ما علق بها من رواسب الجهل والغفلة والهوى والعادات السيئة، ولم يعد بها إلى صورته الفطرية التي جبلها عليها من خلق الإنسان في أحسن تقويـم.
فالمصاب بالبلى في نفسه وعقيدته وعبادته ومعاملته وأخلاقه، لا يجدد الدين، ولا يقدر عليه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والله لا يصلح عمل المفسدين ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
و إن من الاستهزاء بالتجديد، ومن عدم التعامل معه بالجدية اللازمة، أن يتصدى له من طاش عقله، وخربت ذمته، واختل مزاجه، وفسد ذوقه، وضل سواء السبيل .
 9. التجديد والسيرة النبوية :
لا بد لمن يريد أن يكون تجديده سليما مقبولا من دراسة السيرة النبوية الشريفة التي تمثل التطبيق العملي النموذجي الأمثل للقرآن الكريم بصفة خاصة، وللإسلام كله بصفة عامة، و لا بد له من الإلمام بما تختزنه من دروس قيمة، ومواقف عظيمة، ومشاهد رائعة، ولابد له من الاسترشاد بها، والسير في ضوئها، وترسم خطا صاحبها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، لتسدد وجهته، وترشد مسيرته، وتعصمه من الزلل، وتجنبه الخطأ والخطل والخلل .
فالسيرة النبوية الزكية، هي مفتاح التجديد ، وبداية التوفيق والتسديد، ومن رام التجديد - بدونهما - زل وأزل ، وضل وأضل، وتاه في الظلماء، وخبط خبط عشواء، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
10.  التجديد عمل جماعي :
لا يستطيع الفرد الواحد أن يستقل بالتجديد، لأن علمه و طاقته ووقته أضيق من كل ما يتطلبه التجديد، ولأن عقله أعجز من إدراك كل ما يتطلب التجديد إدراكه، فالفرد الواحد يعلم شيئا وتغيب عنه أشياء، وما يجهله أكثر آلاف المرات مما يعلمه، ويلاحظ أمرا، وتغرب عنه أمور كثيرة، والتجديد يقتضي الإحاطة بموضوع التجديد، والإلمام بكل ما يجب الإلمام به .
ولذلك كان من اللازم أن يكون التجديد عملا جماعيا، أي وليد توافق آراء جماعة كثيرة ممن لهم أهلية الاجتهاد والتجديد، لأن ذلك أدعى للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، وأدعى لأن تكون الرؤية شاملة وواضحة، وأدعى لتحاشي الهفوات، وتجنب العثرات، وأدعى لحماية التجديد، وإحاطته بما يلزم من الترشيد والتسديد .
و بعد؛
فهذه نظرات سريعة، ألقيتها على موضوع التجديد وآفاقه، والغرض منها أمران اثنان:
 أحدهمـا : أن يتضح أن التجديد ضروري لا مندوحة عنه، وأن آفاقه في عصرنا الحاضر – بصفة خاصة – واسعة وواعدة بالعطاء .
 وثانيهما : أن يتضح في الوقت نفسه أن هذه الآفاق الواسعة الواعدة، تتسم بصعوبة المسالك، ووعورة التضاريس، وأن ارتيادها – ممن ليس أهلا لها – بشجاعة زائدة، لا يخلو من مغامرة ومخاطرة .
و كل ذلك ليبتعد عن اقتحام حماها المقدس، من ليس أهلا لاقتحامه، وليستعد لها ويتسلح بما يلزم أهل الكفاءات العالية والقدرات المتميزة والنيات الحسنة .
و الله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل .