السبت، 9 أكتوبر 2010

آفاق التجديد

فضيلة الأستاذ الدكتور اليزيد الراضي إلى جانب فضيلة الأستاذ الدكتور سلمان العودة

سبق لفضيلة الأستاذ العلامة الدكتور اليزيد الراضي أن شارك في المؤتمر الثاني للمركز العالمي للتجديد والترشيد المنظم بالعاصمة الموريتانية نواكشوط أيام 26-27-28 مارس 2008 تحت شعار - ترشيد الأفكار والسلوك، وفي ما يلي نص المشاركة، نقلا عن موقع المجلس العلمي الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
لكي نكون على بينة تامة من أمر التجديد، ونتعرف على آفاقه، ومدى سعتها أو ضيقها، وندرك ما يتطلبه السير على دربه المستقيم والملتوي في نفس الوقت، من مؤهلات و كفاءات، و ما يجب أن يحاط به حماه من ضوابط و ضمانات، أجدني ملزما بتقديم ثلاث إضاءات من شأنها أن تجعل تصورنا للتجديد وآفاقه تصورا سليما مقبولا، وأن تسدد خطا المجددين على الطريق القاصد الآمن، وأن تبعد عنهم أسباب الانزلاق، وعوامل الفشـل، وهذه الإضاءات هي الآتية:
1) الإضاءة الأولى: التجديد ضرورة ملحة
لا يختلف اثنان في أن التجديد مطلوب و مرغوب فيه شرعا و عقلا و عادة، أما الشرع فللحديث الشريف الصحيح: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ". (حديث صحيح أخرجه أبو داود، والحاكم في المستدرك والبيهقي في المعرفة عن أبي هريرة (الجامع الصغير للسيوطي 1/282 )).
وأما العقل والعـادة، فلأن مـا لا يتجـدد يصاب بالـبـلى، ويتجاوز، ويعفـو عـليه الزمـان، ويصبح غير قابل للتداول والاستعمال.
وإذا كان التجديد أمرا مرغوبا فيه في كل زمان ومكان، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح ضرورة ملحة، تفرضه طبيعة الحياة المعاصرة، وما تولد عنها من علاقات بالغة التعقيد، فردية وجماعية، وطنية ودولية، فهو قاطرة التاريخ – لا الثورة كما يزعم الشيوعيون – وهو مظهر بارز من مظاهر مرونة الإسلام، ووسيلة من وسائل مسايرته للعصر، ومواكبته للحياة المتطورة المتجددة.
2) الإضاءة الثانية : مجالات التجديد:
اتسعت مجالات التجديد في عصرنا الحاضر، ورحبت آفاقه، ووعدت بالعطاء الكثير:
- فأساليب الدعوة إلى الله، والتبشير بالإسلام بحاجة ماسة إلى التجديد لتناسب العصـر، وتلائم الذوق العام، وتمكن الدعاة من مخاطبة الناس بما يفهمون، إقناعا لهم، وتأثيرا عليهـم، وجذبا لهم إلى الإسلام، ليؤمنوا به، ويخضعوا لضوابطه، وينقادوا لأحكامه، ويمتثلوا أخلاقه.
- والوضع العالمي و ما أفرزه من علاقات دولية، ومن تواصل واحتكاك قوي بين المسلمين وغيرهم، يفتح أفاقا واسعة للاجتهاد والتجديد، والمسلمون لا يسعهم إلا الانخراط في هذا الوضع، وعليهم أن يجتهدوا ويجددوا، ليكون انخراطهم فيه إيجابيا نافعا مؤثرا.
- وعيش الأقليات الإسلامية في دول كثيرة في العالم، يفتح أمام المسلمين آفاقا رحبة للاجتهاد والتجديد، وعلى علماء المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ هذه الأقليات، مما تشعر به من غربة ثقيلة، تولدت عن شعورها بالضياع وعدم الانتماء، ولا يتم هذا الإنقاذ إلا إذا تمكنوا من وضع تشريـع مناسب للأقلـيات، يراعي ظروفها وما يحيط بحاجياتها من ملابسـات وتعقيدات، ويراعي في الوقت نفسه مبادئ الإسلام ومثله وأحكامه.
- والنوازل والقضايا التي تفرزها الحياة المعاصرة، ويكشف عنها باستمرار تقدم العـلـم، وتطور السياسة والاقتصاد والاجتماع ، تفتح أمام المسلميـن آفاقا ومجالات للاجتهاد و التجديد ... .
و هذه الآفاق الواسعة لا بد للمسلمين من اقتحامها، وإلا تخلفوا - وتخلف دينهم بسببهم - عن الركب الحضاري الزاحف، وضلوا سواء السبيل، ولا يقبل منهم أن يتفرجوا على الأحداث، و يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما يواجههم من أسئلة متلاحقة، تطلب الأجوبة بإلحاح، وترفض الإمهال والإهمال.
3) الإضاءة الثالثة : معالم في طريق التجديد:
إن التجديد يقدر ما هو مطلوب و مرغوب فيه، يحتاج إلى كفاءات ومؤهلات، بدون أن يصبح أداة للهدم، ووسيلة للفوضى والانفلات و الفتنة، وإن آفاقه بقدر ما هي واسعة وواعدة ، يحتاج روادها إلى مزيد من الاحتراس واليقظة، وإلا أساءوا – من حيث يريدون الإحسان – إلى أنفسهم و إلى دينهم وإلى الحياة، وما ذلك إلا لأن التجديد سلاح ذو حدين: قد يكون مصدر خير كثيف مفيد، وقد يكون مصدر شر مستطير مبيد.
- فإن دعت الحاجة إليه، وانطوى على مصلحة راجحة، وتوافرت شروطه، وحسنت نية من يمارسه، أعطى نتائج طيبة، وحقق مكاسب ثمينة، وأفاد الإسلام والمسلمين، ويسر الحياة، وجنب الأحياء المضايق والشدائد، وأزاح عنهم الإصر والأغلال، وأراحهم من العنت والحرج.
- وإن لم تدع الحاجة إليه، و لم تتوافر شروطه، أو رافقته نية سيئة، أعطى نتائج عكسية، وأساء إلى الإسلام والمسلمين، وسبب له ولهم متاعب جمة، ونزل به وبهم من قمة الجد والحكمة في معالجة القضايا إلى حضيض الهزل، ودرك العبث.
- وحماية للتجديد من عبث العابثين، وتثبيتا لأقدام المجدديـن على المحجـة البيضاء، وترشيدا لعملهم، وإبعادا لهم عن المزالق والمخاطر، لا بد من إبراز معالم في طريق التجديد، تدل من اهتدى بها على السبيل السوي، وتعينه على تحقيق أهداف التجديد المرجوة، وعلى رأس هذه المعالم :
1. التجديد اجتهـاد :لا يأتي التجديد إلا عن طريق الاجتهاد، فهو نتيجة من نتائجه، وثمرة من ثمرات شجرته.
و نتيجة ذلك أن الضمانات التي أحيطت بها عملية الاجتهاد، لا بد أن تحاط بها عملية التجديد، وأن الشروط الكثيرة التي اشترطها علماء الإسلام في الاجتهاد والمجتهدين، لا بد أن تتوافر في التجديد والمجددين، وعلى رأس هذه الشروط ثقافة واسعـة، وإلمام كبيـر بالقـرآن والحديث والأصول، ومدارك الإجماع والقياس وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه في مظانه.
و هكذا نخلص إلى أن للتجديد – كما الاجتهاد – ضوابط لا بد من مراعاتها، ويمكن اختزالها فيما يلي :
أ) احترام النصوص الشرعية القرآنية و الحديثية، واحترامها يتطلب :
- التأكد من صحتها أو حسنها، ليقبل إعمالها و الاحتجاج بها.
- جمع النصوص المتعلقة بالموضوع المراد التجديد فيه، وتحاشي انتقاء ما يوافق الهوى وترك ما لا يـوافـقـه.
-إعمال النصوص كلها ما أمكن ذلك، وعدم الالتجاء إلى إعمال البعض وإهمال البعض الآخر إلا إذا تعذر الجمع والتوفيق، وفي هذه الحالة يجب الخضوع للقواعد المرعية.
- عدم التجديد – وعدم الاجتهاد – فيما ورد فيه نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، إذ " لا اجتهاد في مورد النص "، والتجديد اجتهاد.
ب) احترام لغة النصوص الشرعية، واحترام ضوابط استعمالاتها الحقيقية والمجازية، فلا يجوز للمجدد أن يحمل الألفاظ ما لا تحتمل، لأن ذلك تعسف وافتيات، والانزياج اللغوي لا محل له في لسان الشارع الحكيم، وما يسميه بعض الصوفية بالمعنى الباطن، لا تقوم به المحجة، والتأويل له شروطه وضوابطه.
ج) احترام المقاصد الشرعية التي تسد الاتجاه، وتشكل بوصلة المجتهدين والمستنبطين والمجددين، ولا يقبل من أي مجتهد أو مجدد أن يتناقض معها، ويسير في غير اتجاههـا.
د) فقه الواقع بملابساته وتعقيداته، لأن فقهه ضروري لتنزيل النصوص الشرعية عليه.
هـ) الورع الشديد والنية الحسنة، باعتبارهما حارسين أمينين للدين و الدنيا، وبدونهما يستوي العلم و الجهل، ولا تنفع النصوص ولا المقاصد، ولا فهم الواقع المعـيـش.
2. التجديد في خدمة أهداف نبيلة :
التجديد ليس مطلوبا لذاته، بل هو مطلوب لأهداف نبيلة يحققها، و لغايات سامية يتغياها، وهذه الأهداف والغايات هي التي تبرره، وتعطيه المشروعية، ومنها :
أ) إدماج الدين في المنظومة الحياتية، ليصبح عنصرا أساسيا فيها، وليعيش جنبا إلى جنب، في وئام و سلام، وتعاون و تكامل وانسجام، مع السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومع كل ما هو ضروري للحياة البشرية، ولكي لا ينظر إليه على أنه شيء هامشي أو ثانوي، أو على أنه قضية شخصية، تهم الفرد ولا تهم المجـمـوع .
والدين كما لا يخفى قضية القضايا، و لب المنظومة الحياتية المعددة العناصر، وهو حجر الأساس في بنائها، وعزله عنها إساءة بالغة إليه وإليها.
ب) توفير الأمن الروحي للمتدينين، وحمايتهم من الأزمات النفسية، والتناقضات الداخليـة، والضغوط الخارجية، التي توقعهم في الحرج، وتحول بينهم و بيـن سعـادة النفـس، وطمأنينة البال .
وإن إبعاد الدين عن مسرح الأحداث، وعن مراكز التوجيه والقرار، لمن أهم ما ينغص حياة المتدينين، لأنه يشعرهم بالغربة، ويزج بهم في أتون التناقض – المفتعل – بين مقومات الحياة الأساسية، التي هي الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وهذا التناقض يؤرق الجفون، ويقض المضاجع، ويشعر بأن أوضاع الحياة غير عادية وغير مريحة.
ج ) تفقيه الناس في الدين، وتبصيرهم بحقوقهم وواجباتهم، وبث الوعي الإسلامي الصحيح في نفوسهم، وإيقاظ واعظ الله في قلوبهم، ليتبينوا في عالم غريب مليء بالتناقضات، مواقع خطاهم، ويعبدوا الله على بينة وبصيرة.
د) نشر ثقافة الوسطية والاعتدال و التيسير والتـسامح والحـوار، ليتـشبع بها الأفـراد والجماعات، وتتحول إلى أخلاق راسخة، وعادات متأصلـة، توجه الأفهــام والتصـورات، وتطيع السلوك والممارسات .
هـ) تطويق الخلاف، وتجفيف منابعه، والقضاء المبرم على أسباب الفتنـة.
و) إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الطارئة، و تقديم الأجوبة الشافية للأسئلة الكثيرة، التي تطرحها الحياة المعاصرة، في شتى مناحي الحياة .
ز) قطع الطريق أمام المتطفلين على الحقل الديني، وسحب البساط من تحت أقدام المتنطعين، الذين يهدمون باسم البناء، ويسيئون باسم الإحسان، وينفرون من الدين باسم الدعوة إلى الله، ويصدق عليهم من حيث يشعرون أولا يشعرون: " قل هل ننبئكـم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"  (سورة الكهـف، الآيتان : 103 – 104 )
ح) رد الاعتبار للـديـن، وتلمـيـع صورتـه، وتقـديمه للناس، عـلى أنـه ديـن الأخــوة والمحبة، ودين السلم والتسامح، ودين التعارف والتعاون على البر والتقوى، وديـن اليسـر والتبشير، ودين العلم والعقل.
3. التجديد غير الإلغــاء :
توهم بعض الناس أن التجديد هو الإلغـاء و التعويض، وذلك غير صحيح، كلما تعلق التجديد بالدين، لأن الدين الإسلامي الحنيف الذي ختم الله به الديانات السماوية، وأتم به النعمة، ورضيه دين الإنسانية جمعاء، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل الإلغاء والتبديل، إذ هو تنزيل من حكيم حميدـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفـه.
ونص الحديث الشريف الذي هو عمدة التجديد و المجددين، يرفض أن يكون المراد بالتجديد هو التغيير والتبديل، فقد ورد فيه " من يجدد لها دينها "، ولم يرد فيه " من يغير لها دينها "، والفرق بين العبارتين واضح جدا.
و جدة الشيء هي حالته التي وجد عليها، عندما صنع لأول مرة (ثوب جديد، منزل جديد، سيارة جديدة، كتاب جديد... ) .
فإذا أصيب الشيء الجديد بالبلى والقدم، و طمست معالمه، وشوهت صورته، احتاج إلى تجديده، و تجديده يعني العودة به إلى حالته الأصلية وإزالة ما ترسب عليه أو علق به بفعل السنين .
و لذلك فتجديد الدين يعني العودة به إلى صفائه الأول، وجماله الأول، و جلاله الأول، الذي كان عليه في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا ما يدل عليه ظاهر حديث التجديد، و يؤيده و يقويه ويسير في ركابه، قول الرسول صلى الله عليه و سلم: " يجل هذا الدين من كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطليـن "  .
ويمكن أن نحصر مظاهر تجديد الدين في الأمور التاليـة:
أ) إزالة ما علق به من الأوهام والخرافات، وتنقيته من كل الشوائب التي تلطخ وجهه، وتشوه صورته.
ب) إحياء ما أميت منه، لتكتمل صورته، وتتضح ملامحه.
ج) تشجيع العمل بما أهمل من أوامره، ودعوة الناس إلى الانقياد لكل أحكامه وضوابطه.
د) إعادة عرضه بطريقة مشوقـة، تضمن تجـاوب الناس معه، واستجابتهـم لدعوتـه، واعتزازهم باعتناقـه .
4. التجديد في الوسائل و الغـايـات :
لا بد لمن يريد التجديد في الدين أن يميز بين الوسائل والغايات، وبين الثابت والمتغير، لأن الوسائل تقبل التجديد، والغايات لا تقبلها، والمتغيرات تقبل التجديد، والثوابت لا تقبلها .
فالوسائل التي كانت صالحة بالأمس، لم تعد صالحة اليوم، والوسائل الصالحة اليوم، قد لا تصلح غدا أو بعد غد، وغايات الإسلام وأهدافه الكبرى لا تؤثرعليها السنون، ولا تتقادم، بل تحافظ على صلاحيتها المطلقة التي لا يحدها زمان و لا مكان .
و على هذا فالتجديد في الغايات والثوابت جهل وعبث و فتنة، والجمود على الوسائل والأمور القابلة للتطور، تضييق للواسع وتحجير وموت .
5. مزالق في الطريـق :
يجب على المجددين أن يحترسوا ويحتاطوا ويحذروا الانزلاق، لأن طريق التجديد محفوف بالمخاطر، والسير فيه يحتاج إلى كثير من اليقظة والانتباه، ومن مزالق طريق التجديد:
أ) أن يتملق المجدد الواقع، ويبرر أخطاءه، ويضفي المشروعية على انحرافاته، وقد كثر - مع الأسف – المجـددون الذين يجددون تحت الطلب، ويمـررون الانزلاقـات الخطيـرة، والانحرافات الكثيرة.
ب) أن تحرك المجدد ردود أفعال، ويسعى وراء الانتقام، وتصفية الحساب، لأن وقوع المجد تحت تأثير هذه الضغوط النفسية، وانصياعه لتياراتها الجارفة، يعمي بصره، و بصيرته، ويدفعه إلى اتخاذ مواقف غير مسؤولة، وغير سليمـة .
ج) أن يحاول المجدد تقنين مزاجه، و إضفاء المشروعية الدينية على هواه، فيجدد إذا دعاه مزاجه وهواه إلى التجديد، ويكف عن التجديد إذا لم يتجاوب التجديد مع ميوله وتطلعاته، والأمزجة والأهواء لا تتحكم في التجديد إلا أفسدته، ومالت به عن الجادة.
6. التجديد عمل خاصة الخاصة :
لا يملك القدرة على التجديد إلا أفذاذ قليلون جدا، لا يجود بهم الزمان إلا في فترات زمنية متباعدة (مرة كل مائة سنة )، وذلك لحاجتهم إلى كفاءات عالية وخبرات ضافية، ونية صافية .
وحديث التجديد المذكور سابقا يشير إلى عزة المجددين و قلة عددهم، وتباعد فترات ظهورهم، ويدل على ذلك في الحديث:
• قوله صلى الله عليه و سلم : " على رأس كل مائة سنة "، ودلالته على ما ذكرناه واضحة .
• قوله صلى الله عليه و سلم : " يبعث لهذه الأمة "، عوض " يقيض لهذه الأمة "، لأن التعبير بالبعث جعل أمر المجددين شبيها إلى حد ما بأمر الرسل الذين يبعثون أقوامهم  في فترات متباعدة .
ومن قرأ هذا الحديث، وأمعن فيه النظر، ووقف وقفات متأنية أمام بعض ألفاظه وعباراته، سيدرك ما أشرنا إليه، وسيتحاشى تزكية النفس، وادعاء أنه من المجددين الأفذاذ.
7. التجديد و الكفاءات المتعددة :
لا تستقل بالتجديد كفاءة واحدة، وإن كانت عالية، و ذات مصداقية عظيمة، بل لا بد من أن تتعاون عليه كفاءات متعددة، يعضد بعضها بعضا، ويتمم بعضها بعضا، وذلك حماية للتجديد من السقوط في هوة الأخطاء السحيقة.
و عليه فالفقهاء وحدهم لا يستطيعون أن يجددوا، و إن بلغوا ما بلغوا من التضلع في علوم الشريعة، لأن التجديد يحتاج إلى كفاءات أخرى لا يملكونها، لأنها لا تدخل في تخصصاتهم، ولكن يملكها غيرهم، فوجب عليهم أن يستعينوا بذوي التخصصات الأخرى، لتتضافر التخصصات المختلفة، وتتعاون الكفاءات المتعددة، وتكثر بذلك فرص النجاح و السداد والرشاد، وتقل فرص الحيرة والتيه و الضلال .
8.  تجديد النفس قبل تجديد الدين :
لا يصلح لتجديد الدين من عجز عن تجديد نفسه، ولم يزل عنها ما علق بها من رواسب الجهل والغفلة والهوى والعادات السيئة، ولم يعد بها إلى صورته الفطرية التي جبلها عليها من خلق الإنسان في أحسن تقويـم.
فالمصاب بالبلى في نفسه وعقيدته وعبادته ومعاملته وأخلاقه، لا يجدد الدين، ولا يقدر عليه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والله لا يصلح عمل المفسدين ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
و إن من الاستهزاء بالتجديد، ومن عدم التعامل معه بالجدية اللازمة، أن يتصدى له من طاش عقله، وخربت ذمته، واختل مزاجه، وفسد ذوقه، وضل سواء السبيل .
 9. التجديد والسيرة النبوية :
لا بد لمن يريد أن يكون تجديده سليما مقبولا من دراسة السيرة النبوية الشريفة التي تمثل التطبيق العملي النموذجي الأمثل للقرآن الكريم بصفة خاصة، وللإسلام كله بصفة عامة، و لا بد له من الإلمام بما تختزنه من دروس قيمة، ومواقف عظيمة، ومشاهد رائعة، ولابد له من الاسترشاد بها، والسير في ضوئها، وترسم خطا صاحبها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، لتسدد وجهته، وترشد مسيرته، وتعصمه من الزلل، وتجنبه الخطأ والخطل والخلل .
فالسيرة النبوية الزكية، هي مفتاح التجديد ، وبداية التوفيق والتسديد، ومن رام التجديد - بدونهما - زل وأزل ، وضل وأضل، وتاه في الظلماء، وخبط خبط عشواء، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
10.  التجديد عمل جماعي :
لا يستطيع الفرد الواحد أن يستقل بالتجديد، لأن علمه و طاقته ووقته أضيق من كل ما يتطلبه التجديد، ولأن عقله أعجز من إدراك كل ما يتطلب التجديد إدراكه، فالفرد الواحد يعلم شيئا وتغيب عنه أشياء، وما يجهله أكثر آلاف المرات مما يعلمه، ويلاحظ أمرا، وتغرب عنه أمور كثيرة، والتجديد يقتضي الإحاطة بموضوع التجديد، والإلمام بكل ما يجب الإلمام به .
ولذلك كان من اللازم أن يكون التجديد عملا جماعيا، أي وليد توافق آراء جماعة كثيرة ممن لهم أهلية الاجتهاد والتجديد، لأن ذلك أدعى للإحاطة بالموضوع من جميع جوانبه، وأدعى لأن تكون الرؤية شاملة وواضحة، وأدعى لتحاشي الهفوات، وتجنب العثرات، وأدعى لحماية التجديد، وإحاطته بما يلزم من الترشيد والتسديد .
و بعد؛
فهذه نظرات سريعة، ألقيتها على موضوع التجديد وآفاقه، والغرض منها أمران اثنان:
 أحدهمـا : أن يتضح أن التجديد ضروري لا مندوحة عنه، وأن آفاقه في عصرنا الحاضر – بصفة خاصة – واسعة وواعدة بالعطاء .
 وثانيهما : أن يتضح في الوقت نفسه أن هذه الآفاق الواسعة الواعدة، تتسم بصعوبة المسالك، ووعورة التضاريس، وأن ارتيادها – ممن ليس أهلا لها – بشجاعة زائدة، لا يخلو من مغامرة ومخاطرة .
و كل ذلك ليبتعد عن اقتحام حماها المقدس، من ليس أهلا لاقتحامه، وليستعد لها ويتسلح بما يلزم أهل الكفاءات العالية والقدرات المتميزة والنيات الحسنة .
و الله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق